بسم الله الرحمن الرحيم
وظيفة علوم القرآن الكريم: المسار والمآل
بحث مقدم للـندوة الدولية:
(علوم القرآن الكريم: إشكالية المفهوم والمنهج والوظيفة)
التي تنظمها دار الحدييث الحسنية بالرباط
بتاريخ 24-25 1440هـ
الدكتور مصطفى الزكاف
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة عبد الملك السعدي
تطوان - المغرب
محاور البحث.
استقام البحث بفضل الله تعالى في مقدمة وثلاثة محاور وخاتمة:
المحور الأول: مفاهيم البحث- أسئلته- أهدافه.
المحور الثاني: وظيفة علوم القرآن النشأة والمسار.
المحور الثالث: وظيفة علوم القرآن المصير والمآل.
خاتمة
المحور الأول: مفاهيم البحث- أسئلته- أهدافه.
1. مفاهيم البحث:
• مفهوم البحث جملة:
رصد وظيفة علوم القرآن في نشأتها مع ملاحظة تطورها ثم مآلها في عصرنا الحاضر.
2. أسئلة البحث الكبرى:
• ما هي وظيفة علوم القرآن؟ ما هي الأسئلة الكبرى التي أجابت عنها؟
• ما هي أوجه الاتفاق والافتراق بين علوم القرآن حاليا وبين ما كان في السابق؟
• هل ستجيب علوم القرآن بواقعها الحالي عن الأسئلة الحرجة اليوم؟
المحور الثاني: وظيفة علوم القرآن النشأة والمسار.
أولا: غاية النشأة.
الناظر في مصادر علوم القرآن الأولى يجد أنها نشأت لغرضين كبيرين: تلبية الحاجة وتحقيق الحجة.
1. علوم القرآن وتلبية حاجة الأمة.
وقد ظهر هذا المعلم بارزا في المظاهر الآتية:
1. تلبية رغبة الطلاب وحاجة المتعلمين. ويستفاد هذا المعلم أيضا من خلال عناوين الكتب أو مقدماتها فمن العناوين: هداية المرتاب وغاية الحفاظ والطلاب في تبيين متشابه الكتاب علم الدين السخاوي (المتوفى: 643هـ) ومن خلال مقدمات الكتب وهي كثيرة فمن ذلك قول الباقلاني في مقدمة كتابه الانتصار: "أما بعد: فقد وقفتُ - تولى الله عصمتكم، وأحسن هدايتكم وتوفيقكم - على ما ذكرتموه من شدة حاجتكم إلى الكلام في نقل القُرآن، وإقامة البرهان على استفاضة أمره وإحاطة السلف بعلمه"
2. استدعاء الكتابة من علماء وخلفاء وأمراء وغيرهم. وهو أمر كان هذا شائعا في تاريخنا العلمي؛ إذ كان التسليم للعالم في الفن الذي يتقنه أمرا مسلما فيستدعى للكتابة في الموضوع الذي يحتاج فيه للبيان في فن ما أو قضية ما وخاصة علوم القرآن ومن أمثلة ذلك طلب الأمير مجاهد من المهدوي تأليف كتاب مختصر في التفسير يشمل قضايا علوم القرآن من الإعراب والقراءات والناسخ والمنسوخ فألف كتاب: التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل فجاء في غاية النفاسة اتخذه من بعده مصدرا في كثيرا من مسائل علوم القرآن.
3. شروح الكتب الأصلية. والقصد من الشروح في معظمها تلبية حاجة الإفهام، وتقريب البعيد وكشف الغامض وتلخيص المطول وتفصيل المجمل. وأمثلها لا تكاد تحصى ونموذج شروح القراءات كافية للتدليل في هذا المقام.
4. أجوبة على المسائل والنوازل. حفلت المكتبة الإسلامية عبر التاريخ بنماذج متميزة في هذ الباب والتي تتضمن الاستفسار عن تفسير آية أو قراءتها، أو ناسخ ومنسوخ أو تفسير متشابه لفظي أو معنوي وغير ذلك، و قد جمع د موسى الشريف: مجموع فتاوى القرآن الكريم. وما زال جمع النوازل المعاصرة إلى يومنا هذا فقد أعد د عاصم بن عبدالله آل حمد رسالة جامعية في: نوازل القرآن المتعلقة بالمصاحف والقراءة تتضمن هذه قضايا معاصرة تتصل بعلوم القرآن.
واكبت الأمة الحفاظ على الوحي فكان هو المركز والعلوم التي قامت حوله لا تخرج عن مسارين: علوم خادمة له وعلوم مستنبطة منه، وهي كلها ظهرت إما لحجة أو حاجة.
فالحجة هنا ما يقتضيه الأمر من بيان سلطان آيات الله، وإثبات الأدلة، حتى تقام البينة على صاحب الدعوى، وقد ظهر المقصد جليا في المؤلفات الأولى للعلماء، وتجلى ذلك في مظاهر:
1. عناوين مصنفات علوم القرآن: سمى علماء الأمة كثيرا من مؤلفاتهم بأسماء يفهم منها مقاصدها وغاية أصحابها؛ إذ "عناوين الكتب صورة لواقعها"، فنجد ألفاظ الحجة والاحتجاج وما في معناها كثيرا في أسماء المصنفات، وقد كثر هذا المصطلح في كتب القراءات أكثر من غيرها مثل: الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي والحجة في القراءات السبع لابن خالويه وحجة القراءات لابن زنجلة وغيرهم.
وما في معنى الحجة من مثل: البرهان في علوم القرآن للحوفي والبرهان في علوم القرآن للزركشي وغيرهما
2. مقدمات مصنفات علوم القرآن. لانكاد نجد مصنفا من مصنفات علوم القرآن إلا ويبين في مقدماتها مقاصدها التي يريدها أصحابها، ومنها إقامة الحجة على أصحاب الملل والنحل، وما يلفهم ممن في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وأعظمها بيانا لهذا كتب المتشابه والمشكل وكتب معاني القرآن، ومن أمثلة ذلك قول ابن قتيبة في مقدمته كتابه تأويل مشكل القرآن: "وقد ذكرت الحجّة عليهم في جميع ما ذكروا، وغيره مما تركوا، وهو يشبه ما أنكروا، ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدت له. وأفردت للغريب كتابا، كي لا يطول هذا الكتاب، وليكون مقصورا على معناه، خفيفا على من قرأه إن شاء الله تعالى".
3. موضوعات مصنفات علوم القرآن. موضوعات علوم القرآن في معظمها كان يقصد من فصلها وإحكام تقسيمها إقامة الدعوى على من زلت به الاقدام في حمل الآيات على غير محاملها وصرفها عن مرادها، فموضوعات المكي والمدني وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها كلها يقصد منها إحكام الفهم، وضبط قوانين الإفهام.
المحور الثالث: وظيفة علوم القرآن في مسارها.
الناظر في مباحث علوم القرآن ومسارها التاريخي يجدها تحقق مقصدين كبيرين: التحصيل والتحصين.
1. مقصد التحصيل.
أما التحصيل فأصل معناه: جمع الشي ء سواء كان فكرا أو قولا أو فعلا، مادّيّا كان أو معنويّا. ويقصد به هنا تحصيل مفاهيم مصطلحات علوم القرآن ومسائلها وقضاياها.
وقد تجلت مقاصد التحصيل فيما يلي:
• تحقيق حفظ الوحي. وهو مقصد عظيم أكده الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون. والحفظ هنا سنني وذلك أن الله جل وعلا وفق أعلاما من هذه الأمة يقومون بواجب الحفظ من أجل استمرار تحصيل هدى الله الشامل الكامل إلى يوم الدين، وقصة نقط المصحف إعرابا وإعجاما تبين هذا المقصد بجلاء.
• ضبط مسلك الفهم والإفهام. الفهم والإفهام مقصد عجيب حرص عليه القرآن وسلك بالعرب هذا المسلك، وقد ظهر هذا جليا في ألفاظ الوحي ومعانيه، فقد خاطب الله العليم المحيط البشر بأساليب يفهمونها نبت معانيها في نفوسهم، ولو خاطبهم بمقتضى علمه المحيط لما استطاع أحد أن يفهم كلام الجليل، ومن أجل بقاء هذا الأمر قائما قامت علوم بهذه المهمة حتى لايحصل أي خلل في الفهم أو الإفهام.
• ضبط طرق الاستنباط. وهو مقصد كبير تولت كتب أصول الفقه هذا الأمر؛ إذ من أهم مقاصدها ضبط دلالة الألفاظ ووضع الميزان الذي يوزن به أي استنباط، حتى لايشتط الاستنباط بشيء لايسعفه لا المعقول ولا المنقول.
• كشف المشكلات وتوضيح المعضلات. فكان علماء الأمة يواكبون مسار حفظ القرآن حرفا ومعنى وأي مشكل طرأ سواء على مستوى الأداء أو المعاني إلا ونهضوا إليه وبينوا بيانا قولا وعملا، فكتب اللحن في التجويد نموذج في ضبط الأداء وكتب الكشف والتعليل نموذج في المعاني.
• وضع القواعد للنظر في المآلات والاستجابة لمواجهة التحديات. وهو موضوع اهتم به العلماء في فروع علوم القرآن كلها لكن في مجال التفسير أقوى وقد ألفت فيه كتب في القديم والحديث فمن القدماء: ابن تيمية في الرسالة المنشورة باسم: (قاعدة في أصول التفسير) ، ثم بعد مدة من الزمن ألف الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـولي الله الدهلوي (الفوز الكبير في أصول التفسير ( وفي عصرنا الحاضر جمع د خالد السبت قواعد التفسير في سفرين مفيدين.
2. مقصد التحصين.
وأما التحصين فأصل معناه: الحفظ و الحياطة و الحرز. ويقصد به هن ما يقع به حفظ الوحي وحياطته ومنعه من الفهم الزائغ.
وقد نشأ التحصين لدواع تجلت فيما يلي:
• حماية مفاهيم الوحي للدلالة على معناها الأصلي؛ لأن "الوحي رأس العلم ونسق من المفاهيم إذا حُصلت حُصلت كليات الدين...وهي لا تقبل المس بما يخل بنسقيتها: لا تقبل زحزحة في المواقع أو تغيرا في الترتيب، ولا تقبل تغييرا في الأحجام أو الألوان، والا صار الأمر إلى شيء غير الإسلام... ولإعادة الأمور إلى نصابها قامت علوم القرآن بتحصين مفاهيم الوحي حتى لايتطرق لها أي خلل.
• حدوث تطور في مفاهيم ألفاظ القرآن عبر التاريخ، ذلك أن البعد عن الذوق اللغوي للغة التنزيل أثر كثيرا في فهم ألفاظ القرآن، فاللغة من شأنها أنها تتطور في دلالتها واستعمالها، فيستقر لفظ بمعنى ما زمانا أو مكانا يوافق لفظ القرآن فيحمل المعنى القرآني على الاستعمال المتأخر وقد دخل من هذا الباب شر كبير في ذات الأمة.
• تأويل الآيات وصرفها عن مقاصدها. فانتزاع الآيات من سياقها العام، واختطاف الأحكام من نص واحد في جهل وغفلة عن النصوص الأخرى المبينة للقضية أمر جر الويلات في تاريخ الأمر واستمر أثره إلى يومنا هذا. وقد حصل عن عدم التقيد بهذه الضوابط أمور أدت في بعض الأحيان إلى إسالة دماء بين أبناء الأمة مثل الذي حصل في فكر الخوارج من حمل آيات الكفار على المسلمين حتى أصبح منهجهم ومهمتهم إخراج الناس من الدين لا إدخالهم فيه كما هو منهج النبوة.
• كثيرة الدخيل من الروايات والأفكار والفهوم. وهو أمر عرض للوحي منذ عصر الرواية فقد امتلأت كثير من كتب التفسير بغير قليل من الإسرائيليات، والقصص التاريخية التي نسجت على بعض ما نبه عليه القرآن إجمالا لأخذ العبرة والعظة إذ القرآن لايقصد سرد الحدث التاريخي مجردا يتوقف عند الأسماء والأماكن، بل ينفذ من خلال ما يذكر إلى أن يكون هدى وذكرى لأولى الألباب.
• الاجتراء على تفسير كلام الله، ودخول الميدان من لا يحسن في العلم شيئا. وهو في عصرنا هذا أصبح ظاهرة عند كثير من المثقفين، يدخلون إلى عالم القرآن فيستنطقون النصوص كيفما يريدون، بدعوى الاستجابة لأمر القرآن بالدعوة إلى النظر والاجتهاد والاستنباط؛ فلذلك ما زال الأمر يحتاج إلى كشف هذه التلبيسات ووضع اليد على مكامن الخلل فيما اجترحوا فيه من السيئات.
المحور الثالث: وظيفة علوم القرآن في مآلها.
لخص الزرقاني رحمه الله وظيفة علوم القرآن وما آلت فقال:(هذا العلم يسير على سنة غيره من العلوم بين جزر ومد وزيادة ونقص. على مقدار ما يستهدف له من مؤثرات خاصة. فلا بدع أن تجد في منهج دراستك اليوم مباحث جديدة ومواضع مبتكرة لم تنتظم قبل في سمط علوم القرآن ذلك لأن الأفكار متحركة ومتجددة ولأن الشبهات التي تحوم في رؤوس بعض الناس في هذا العصر والمطاعن التي يوجهها أعداء الإسلام في هذا الجيل, قد تكون هي الأخرى جديدة ومبتكرة. ومن الحكمة أن نقاتل الناس بمثل سلاحهم وأن ندرس في علوم القرآن ما يحمي حمى القرآن الشريف من هذا العدوان الخبيث. أضف إلى ذلك أن العلوم تخبو بالإهمال والترك وتزكو بالدرس والبحث. سنة الله في خلقه {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} .
ويستفاد من هذا أن علوم القرآن نشأت لحاجة الأمة في حفظ كيانها ومواكبة صيرورتها، ولذا لاينبغي أن تصبح العلوم كالنصوص مقدسة غايات مقصودة لذاتها بل يجب أن تبقى وسائل تؤدي غايتها وتجيب عن إشكالاتها كلما طرأ طارئ وإلا سنحبس عصرنا في وقت ما ولا يمكننا ذلك. وقد رأينا كثيرا من الدراسات قامت عند الآخرين وأثارت كثيرا من الإشكالات، لكن للأسف كان الرد عليه في الغالب عاطفيا ينطلق من مسلماتنا لا علميا لإقناع الآخر مما زاد الآخر تشبثا بموقفه.
أضف إلى ذلك أن بعض القضايا كانت في علوم القرآن تعالج مسائل وبقيت كذلك مع الزمن يتطلب أن تصبح علما قائما بذاته مثل علم ترجمة القرآن وغيره.
• والخلاصة أنه يجب تحديث علوم القرآن بما يتناسب مع واقع الزمن مع استحضار أن تجديد العلم لايتحقق بنظرات جزئية فقط وإنما يتحقق بوضع الأمور في خطط منهجية تصاغ في مشاريع محكمة الخطى، واضحة المعالم، موثوقة الأهداف والغايات.
خاتمة: توصيات
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات